الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم إن السلطان عزل مهنا بأخيه فضل ورسم بأن مهنا لايقيم بالبلاد. ثم قبض السلطان على الأمير بيبرس المجنون وبيبرس العلمي وسنجر البرواني وطوغان المنصوري وبيبرس التاجي وقيدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك في سادس ربيع الآخر من السنة. ثم أمر السلطان في يوم واحد ستة وأربعين أميرًا منهم طبلخاناه تسعة وعشرون وعشروات سبعة عشر وشقوا القاهرة بالشرابيش والخلع. ثم في يوم الاثنين أول جمادى الأولى خلع السلطان على مملوكه أرغون الدوادار بنيابة السلطنة بالديار المصرية عوضًا عن بيبرس الدوادار بحكم القبض عليه. ثم خلع السلطان على بلبان طرنا أمير جاندار بنيابة صفد عوضًا عن بهادر آص وأن يرجع بهادر آص إلى دمشق أميرًا على عادته أولًا. ثم ركب السلطان إلى الصيد ببر الجيزة وأمر جماعة من مماليكه وهم: طقتمر الدمشقي وقطلوبغا الفخري المعروف بالفول المقشر وطشتمر البدري المعروف بحمص أخضر. ثم ورد على السلطان الخبر بحركة خربندا ملك التتار فكتب السلطان إلى الشام بتجهيز الإقامات وعرض السلطان العساكر وأنفق فيهم الأموال وابتدأ بالعرض في خامس عشر شهر ربيع الآخر وكمل في أول جمادى الأولى فكان يعرض في كل يوم أميرين من مقدمي الألوف وكان يتولى العرض هو بنفسه ويخرج الأميران بمن أضيف إليهما من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد ويرحلون شيئًا بعد شيء من أول شهر رمضان إلى ثامن عشرينه حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر. ثم خرج السلطان في ثاني شوال ونزل مسجد التبن خارج القاهرة ورحل منه في يوم الثلاثاء ثالث من شوال ورتب بالقلعة نائب الغيبة الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري. فلما كان ثامن شوال قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرين رمضان من الرحبة وعودهم إلى بلادهم بعد ما أقاموا عليها من أول شهر رمضان. فلما بلغ السلطان ذلك فرق العساكر في قاقون وعسقلان وعزم السلطان على الحج ودخل دمشق في تاسع عشر شوال وخرج منها في ثاني ذي القعدة إلى الكرك وكان قد أقام بدمشق أرغون النائب للنفقة على العساكر وغير ذلك من الأعمال وكلف الوزير أمين الملك ابن الغنام بجمع المال اللازم وتوجه السلطان من الكرك إلى الحجاز في أربعين أميرًا فحج وعاد إلى دمشق في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وكان لدخوله دمشق يوم مشهود وعبر دمشق على ناقة وعليه بشت من ملابس العرب بلثام وبيده حربة فأقام بدمشق خمسة عشر يومًا وعاد إلى مصر فدخلها يوم ثاني عشر صفر. ثم عمل السلطان في هذه السنة أعني سنه ثلاث عشرة وسبعمائة الروك بدمشق وندب إليه الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة. ثم إن السلطان تجهز إلى بلاد الصعيد ونزل من قلعة الجبل في ثاني عشرين شهر رجب من السنة ونزل تحت الأهرام بالجيزة وأظهر أنه يريد الصيد والقصد السفر للصعيد وأخذ العربان لكثرة فسادهم. وبعث عدة من الأمراء حتى أمسكوا طريق السويس وطريق الواحات فضبط البرين على العربان ثم رحل من منزلة الأهرام إلى جهة الصعيد وفعل بالعربان أفعالًا عظيمة من القتل والأسر ثم عاد إلى الديار المصرية فدخلها في يوم السبت عاشر شهر رمضان. وكان ممن قبض عليه السلطان مقداد بن شماس وكان قد عظم ماله حتى كان عدة جواريه أربعمائة جارية وعدة أولاده ثمانين. وكان السلطان قد ابتدأ في أول هذه السنة بعمارة القصر الأبلق على الإسطبل السلطاني ففرغ في سابع عشر شهر رجب. وقصد السلطان أن يحاكي قصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري الذي بظاهر دمشق واستدعى له صناع دمشق وصناع مصر حتى كمل وأنشأ بجانبه جنينة وقد ذهبت تلك الجنينة كما ذهب غيرها من المحاسن. ثم إن السلطان رسم بهدم مناظر اللوق بالميدان الظاهري وعمله بستانًا وأحضر إليه سائر أصناف الزراعات واستدعى خولة الشام والمطعمين فباشروه حتى صار من أعظم البساتين وعرف أهل جزيرة الفيل من ذلك اليوم صناعة التطعيم للشجر واغتنوا بها. ثم في
كتب السلطان لنائب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحدًا منهم لا يكاتب السلطان وإنما يكاتب الأمير تنكز نائب الشام ويكون تنكز هو المكاتب للسلطان في أمرهم فشق ذلك على النواب وأخذ الأمير سيف الدين بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك فكاتب فيه تنكز السلطان حتى عزل واستقر عوضه الأمير بلبان البدري وحمل بلبان طرنا مقيدًا إلى مصر وسجن بالقلعة. ثم إن السلطان اهتم بعمارة الجسور بأرض مصر وترعها وندب الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى الشرقية والأمير علاء الدين أيدغدي شقير إلى البهنساوية والأمير حسين بن جندر إلى أسيوط ومنفلوط والأمير سيف الدين آقول الحاجب إلى الغربية والأمير سيف الدين قلي أمير سلاح إلى الطحاوية وبلاد الأشمونين والأمير جنكلي بن البابا إلى القليوبية والأمير بهادر المعزي ثم إن السلطان قبض على الأمير أيدغدي شقير وعلى الأمير بكتمر الحسامي الحاجب صاحب الدار خارج باب النصر في أول شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة فقتل أيدغدي شقير من يومه لأنه اتهم أنه يريد الفتك بالسلطان وأخذ من بكتمر الحاجب مائة ألف دينار وسجن. ثم قبض السلطان على الأمير طغاي وعلى الأمير تمر الساقي نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل وقبض على الأمير بهادر آص وحمل إلى الكرك من دمشق. واستقر الأمير كستاي الناصري نائب طرابلس عوضًا عن تمر الساقي. ثم أفرج السلطان عن الأمير قجماس المنصوري أحد البرجية من الحبس وأخرج الأمير بدر الدين محمد بن الوزيري إلى دمشق منفيًا. ثم في ثامن عشر شر رجب أفرج السلطان عن الأمير آقوش الأشرفي نائب الكرك وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير حسام الدين لاجين الأستادار بعد موته. وفي العشر الأخير من شعبان من سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع في عمل الروك بأرض مصر وسبب ذلك أن أصحاب بيبرس الجاشنكير وسلار وجماعة من البرجية كان خبز الواحد منهم مابين ألف مثقال في السنة إلى ثلاثمائة مثقال فأخذ السلطان أخبازهم وخشي الفتنة فقرر مع فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش روك البلاد وأخرج الأمراء إلى الأعمال: فتعين الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا إلى الغربية ومعه آقول الحاجب والكاتب مكين الدين إبراهيم بن قروينة وتعين للشرقية الأمير أيدمر الخطيري ومعه أيتمش المحمدي والكاتب أمين الدين قرموط وتعين للمنوفية والبحيرة الأمير بلبان الصرخدي وطرنطاي القلنجقي ومحمد بن طرنطاي وبيبرس الجمدار. وتعين جماعة أخر للصعيد. وتوجه كل أمير إلى عمله فلما نزلوا بالبلاد استدعى كل أمير مشايخ البلاد ودلاتها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل منه للجندي من العين والغلة والدجاج والإوز والخراف والكشك والعدس والكعك. ثم قاس الأمير تلك الناحية وكتب بذلك عدة نسخ ولازال يعمل ذلك في كل بلد حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يومًا بالأوراق فتسلمها فخر الدين ناظر الجيش. ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقي الأسعد بن أمين الملك المعروف ب كاتب برلغي وسائر مستوفي الدولة ليفردوا لخاص السلطان بلادًا ويضيفوا الجوالي إلى البلاد وكانت الجوالي قبل ذلك إلى وقت الروك لها ديوان مفرد يختص بالسلطان فأضيف جوالي كل بلد إلى متحصل خراجها. وأبطلت جهات المكوس التي كانت أرزاق الجند عليها. منها ساحل الغلة وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة جندي من أجناد الحلقه سوى الأمراء وكان متحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم. وكان إقطاع الجندي منها من عشرة آلاف درهم إلى ثلاثة الاف درهم وللأمراء من أربعين ألفًا إلى عشرة الاف درهم فاقتنى المباشرون منها أموالًا عظيمة فإنها كانت أعظم الجهات الديوانية وأجل معاملات مصر. وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والعسف والظلم فإن أمرها كان يدور على نواتية المراكب والكيالين والمشدين والكتاب وكان المقرر على كل إردب درهمين للسلطان ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما كان ينهب. وكان له ديوان في بولاق خارج المقس وقبله كان له خص يعرف بخص الكيالة. وكان في هذه الجهة نحو ستين رجلًا ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جنديًا للشد وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه فأزال الملك الناصر هذا الظلم جميعه عن الرعية ورخص سعر القمح من ذلك اليوم وانتعش الفقير وزالت هذه الظلامة عن أهل مصر بعد أن راجعته أقباط مصر في ذلك غير مرة فلم يلتفت إلى قول قائل رحمه الله تعالى ما كان أعلى همته وأحسن تدبيره. وأبطل الملك الناصر أيضًا نصف السمسرة الذي كان أحدثه ابن الشيخي فى وزارته عامله الله تعالى بعدله وهو أنه من باع شيئًا فإن دلالة كل مائة درهم درهمان يؤخذ منها درهم للسلطان فصار الدلال يحسب حسابه ويخلص درهمه قبل درهم السلطان فأبطل الملك الناصر ذلك أيضًا وكان يتحصل منه جملة كثيرة وعليها جند مستقطعة. وأبطل السلطان الملك الناصر أيضًا رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية وهي أنها كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش وكان عليها أيضًا جنذ مستقطعة وأمراء وكان فيها من الظلم والعسف وهتك الحرم وهجم البيوت وإظهار الفواحش ما لا يوصف فأبطل ذلك كله سامحه الله تعالى وعفا عنه. وأبطل ماكان مقررًا للحوائص والبغال وكان يجبى من المدينة ومن الوجهين: القبلي والبحري ويحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن الحياصة ثلاثمائة درهم وعن ثمن البغل خمسمائة درهم وكان على هذه الجهة أيضًا عدة مقطعين سوى ماكان يحمل إلى الخزانة فكان فيها من الظلم بلاء عظيم فأبطل الملك الناصر ذلك كله رحمه الله. وأبطل أيضًا ما كان مقررًا على السجون وهوعلى كل من سجن ولو لحظة واحدة مائة درهم سوى ما يغرمه. وكان أيضًا على هذه الجهة عدة مقطعين ولها ضامن يجبي ذلك من سائر السجون فأبطل ذلك كله رحمه الله. وأبطل ما كان مقررًا من طرح الفراريج وكان لها ضمان في سائر الأقاليم. كانت تطرح على الناس بالنواحي الفراريج وكان فيها أيضًا من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه وكان عليها عدة مقطعين ومرتبات ولكل إقليم ضامن مقرر ولا يقدر أحد أن يشتري فروجًا إلا من الضامن فأبطل الناصر ذلك ولله الحمد. وأبطل ما كان مقررًا للفرسان وهوشيء تستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم فيجبى من ذلك مال عظيم ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم من كثرة الظلم فأبطل الملك الناصر ذلك رحمه الله تعالى. وأبطل ما كان مقررًا على الأقصاب والمعاصر كان يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة فيحصل من ذلك شيء كثير. وأبطل ماكان يؤخذ من رسوم الأفراح كانت تجبى من سائر البلاد وهي جهة لايعرف لها أصل فبطل ذلك ونسي و لله الحمد. وأبطل جباية المراكب كانت تجبى من سائر المراكب التي في بحر النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية. كان يجبى ذلك من مسافري المراكب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء فبطل ذلك أيضًا. وأبطل ما كان يأخذه مهتار طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش وكانت جملة مستكثرة. وأبطل ضمان تجيب بمصر وشد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة فكان يؤخذ عن كل عبد وجارية مبلغ مقرر عند نزولهم في الخانات وكانت جهة قبيحة شنيعة إلى الغاية فأراح الله المسلمين منها على يد الملك الناصر رحمه الله. وأبطل أيضًا متوفر الجراريف بالأقاليم وكان عليها عدة كثيرة من المقطعين. وأبطل ماكان مقررًا على المشاعلية من تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها فكان إذا امتلأ سراب بيت أو مدرسة من الأوساخ لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرر أجرته بما يختار ومتى لم يوافقه صاحب البيت تركه ومضى حتى يحتاج إليه ويبذل له ما يطلب. وأبطل ما كان مقررًا من الجبي برسم ثمن العبي وثمن ركوة السواس. وأبطل أيضًا وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال وكان في كل بلد ناظر ومستوف ومباشرون فرسم السلطان ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير ورفع يد سائر المباشرين من البلاد. قلت: وكل ما فعله الملك الناصر من إبطال هذه المظالم والمكوس دليل على حسن اعتقاده وغزير عقله وجودة تدبيره وتصرفه حيث أبطل هذه الجهات القبيحة التي كانت من أقبح الأمور وأشنعها وعوضها من جهات لا يظلم فيها الرجل الواحد. ومثله في ذلك كمثل الرجل الشجاع الذي لا يبالي بالقوم كثروا أو قلوا فهو يكر فيهم فإن أوغل فيهم خلص وإن كر راجعًا لايبالي بمن هو في أثره لما يعلم ما في يده من نفسه فأبطل لذلك ماقبح وأحدث ما صلح من غير تكلف وعدم تخوف فلله دره من ملك عمر البلاد وعمر بالإحسان العباد. وهذا بخلاف من ولي بعده من السلاطين فإنهم لقصر باعهم عن إدراك المصلحة مهما رأوه ولو كان فيه هلاك الرعية وعذاب البرية يقولون: بهذا جرت العادة من قبلنا فلا سبيل إلى تغيير ذلك ولو هلك العالم فلعمري هل تلك العادة حدثت من الكتاب والسنة أم أحدثها ملك مثلهم وما أرى هذا وأمثاله إلا من جميل صنع الله تعالى كي يتميز العالم من الجاهل. انتهى. ثم رسم السلطان الملك الناصر بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع عشرة وسبعمائة. وجعل الروك الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة وسبعمائة والروك الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة. وأفرد السلطان لخاصه الجيزية وأعمالها. وأخرجت الجوالي من الخاص وفرقت في البلاد وأفردت الجهات التي بقيص من المكس كلها وأضيفت إلى الوزير وأفردت للحاشية بلاد ولجوامك المباشرين بلاد ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت من بيت المال وحبست فأدخلت في الإقطاعات. قلت: وشراء الإقطاعات من بيت المال شراء لا يعبأ الله به قديمًا وحديثًا فإنه متى احتاج بيت مال المسلمين إلى بيع قرية من القرى وإنفاق ثمنها في مصالح المسلمين. فهذا شيء لم يقع في عصر من الأعصار وإنما تشترى القرية من بيت المال ثم إن السلطان يهب للشاري ثمن تلك القرية فهذا البيع وإن جاز في الظاهر لا يستحله الورع ولا فعله السلف حتى إن الملك لا تجوز له النفقة من بيت المال إلا بالمعروف فمتى جاز له أن يهب الألوف المؤلفة من أثمان القرى لمن لايستحق أن يكون له النزر اليسير من بيت المال. وهذا أمر ظاهر معروف يطول الشرح في ذكره. وفي قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فرضه لنفسه من بيت المال كفاية عن الإكثار في هذا المعنى. انتهى. ثم إن السلطان رسم بأن يعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاحين وحسب من جملة المبالغ. فلما فرغ من العمل في ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من جهات المكس وغيره وكتبت المراسيم بذلك إلى سائر النواحي بهذا الإحسان العظيم فسر الناس بذلك قاطبة سرورًا عظيمًا وضج العالم بالدعاء للسلطان بسائر الأقطار حتى شكر ووقع ذلك لملوك التتار وأرسلوا في طلب الصلح حسب ما يأتي ذكره. ثم جلس السلطان الملك الناصر بالإيوان الذي أنشأه بقلعة الجبل في يوم الخميس ثاني عشرين في الحجة سنة خمس عشرة وسبعمائة لتفرقة المثالات. وهذا الروك يعرف بالروك الناصري المعمول به إلى يومنا هذا. وحضروا الناس ورسم السلطان أن يفرق في كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما فكان المقدم يقف بمضافيه ويستدعى كل واحد باسمه فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان من أنت ومملوك من أنت حتى لايخفى عليه شيء من أمره ثم يعطيه مثالًا يلائمه فأظهر السلطان في هذا العرض عن معرفة تامة بأحوال رعيته وأمور جيوشه وعساكره وكان كبار الأمراء تحضر التفرقة فكانوا إذا أخفوا في شكر جندي عاكسهم السلطان وأعطاه دون ما كان في أملهم له وأراد بذلك ألا يتكلم أحدهم في المجلس فلما علموا بذلك أمسكوا عن الكلام والشكر بحيث إنه لايتكلم أحد منهم إلا رد جواب له يسأل عنه فمشى الحال بذلك على أحسن وجه من غير غرض ولا عصبية وأعطي لكل واحد ما يستحقه. قلت: وأين هذه الفعلة من فعل الملك الظاهر برقوق رحمه الله وقد أظهر من قلة المعرفة وإظهار الغرض التام حيث أنعم على قريبه الأمير قجماس بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وهو إذ ذاك لا يحسن يتلفظ بالشهادتين فكان مباشرو إقطاعه يدخلون إليه مع أرباب وظائفه فيجدون الفقيه يعلمه الشهادة وقراءة الفاتحة وهو كالتيس بين يدي الفقيه فكان ذلك من جملة ذنوب الملك الظاهر برقوق التي عددوها له عند خروج الناصري ومنطاش عليه ونفرت القلوب منه حتى خلع وحبس حسب مايأتي ذكره. ولم أرد بذلك الحط على الملك الظاهر المذكور غير أن الشيء بالشيء يذكر. انتهى. ثم فعل السلطان الملك الناصر ذلك مع مماليكه وعساكره فكان يسأل المملوك عن اسمه واسم تاجره وعن أصله وعن قومه إلى الديار المصرية وكم حضر مصاف وكم لعب بالرمح عن سنه ومن كان خصمه في لعب الرمح وكم أقام سنة بالطبقة فإن أجابه بصدق أنصفه وإلا تركه ورسم له بجامكية هينة حتى يصل إلى رتبة من يقطع بباب السلطان فأعجب الناس هذا غاية العجب. وكان الملك الناصر أيضًا يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والراتب فيعطيه ما يختاره ولم يقطع في هذا العرض العاجز عن الحركة بل كان يرتب له ما يقوم به عوضًا عن إقطاعه. واتفق للسلطان أشياء في هذا العرض منها: أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر يشبه ضربة السيف فأعجبه وناوله مثالًا بإقطاع جيد وقال له: في أي مصاف وقع في وجهك هذا السيف فقال: لا يا خوند هذا ما هو أثر سيف وإنما وقعت من سلم فصار في وجهي هذا الأثر فتبسم السلطان وتركه فقال له الفخر ناظر الجيش: ما بقي يصلح له هذا الخبز فقال الملك الناصر: قد صدقني وقال الحق وقد أخذ رزقه فلو قال: أصبت في المصاف الفلاني من كان يكذبه فدعت الأمراء له وانصرف الشاب بالإقطاع. ومنها: أنه تقدم إليه رجل دميم الخلق وله إقطاع ثقيل عبرته ثمانمائة دينار فأعطاه مثالًا وانصرف به عبرته نصف ماكان في يده فعاد وقتل الأرض فسأله السلطان عن حاجته فقال: الله يحفظ السلطان فإنه غلط في حقي فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار وهذا عبرته أربعمائة دينار فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأولى فامض بما قسم الله لك وأشياء من هذا النوع إلى أن انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة وسبعمائة فوفر منها نحو مائتي مثال. ثم أخذ السلطان في عرض مماليك الطباق ووفر جوامك عدة منهم ثم أفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد وقرر لكل منهم ثلاثة آلاف أدرهم في السنة. ثم إن السلطان ارتجع ما كانت المماليك البرجية اشترته من أراضي الجيزة وغيرها. وارتجع السلطان أيضًا ما كان لبيبرس و سلار وبرلغي والجوكندار وغيرهم من الرزق وغيرها وأضاف ذلك كله لخاص السلطان وبالغ السلطان في إقامة الحرمة في أيام العرض وعرف الأمير أرغون النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالًا أوتضرر أوشكا ضرب وحبس وقطع خبزه وأن أحدًا من الأمراء لايتكلم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك فلم يتجاسر أحد يخالف مارسم به وغبن في هذا الروك أكثر الأجناد فإنهم أخذوا إقطاعًا دون الإقطاع الذي كان معهم وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان فنهاهم أرغون النائب عن ذلك فقدر الله تعالى أن الملك الناصر نزل إلى بركة الحجيج لصيد الكركي على العادة وجلس في البستان المنصوري الذي كان هناك ليستريح فدخل بعض المرقدارية يقال له عزيز وكان من عادته أن يهزل قدام السلطان ليضحكه فأخذ المرقدار يهزل ويمزح ويتمسخر قدام السلطان والأمراء جلوس وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها فتمادى في الهزل لشؤم بخته إلى أن قال: وجدت جنديًا من جند الروك الناصري وهو راكب إكديشًا وخرخه ومخلاته ورمحه على كتفه وأراد أن يتم الكلام فاشتد غضب السلطان فصاح في المماليك: عروه ثيابه ففي الحال خلعت عنه الثياب وربط مع قواديس الساقية وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران فصار عزيز المذكور تارة ينغمس في الماء وتارة يظهر وهو يستغيث وقد عاين الموت والسلطان يزداد غضبًا. ولم يجسر أحد من الأمراء أن يشفع فيه حتى مضى نحو ساعتين وانقطع حسه فتقدم الأمير طغاي الناصري والأمير قطلوبغا الفخري الناصري وقالا: يا خوند هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان ويطيب خاطره ولم يرد غير ذلك فما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت ورسم بنفيه من الديار المصرية فعند ذلك حمد الله تعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد. انتهى أمر الروك وما يتعلق به. وفي محرم سنة ست عشرة وسبعمائة ورد الخبر على السلطان بموت خربندا ملك التتار و جلوس ولده بوسعيد في الملك بعده. ثم أفرج الملك الناصر عن الأمير بكتمر الحسامي الحاجب وخلع عليه يوم الخميس ثالث عشر شوال من السنة المذكورة بنيابة صفد وأنعم عليه بمائتي ألف درهم. ثم نقل السلطان في السنة أيضًا الأمير كراي المنصوري وسنقر الكمالي الحاجب من سجن الكرك إلى البرج بقلعة الجبل فسجنا بها. ثم بدا له زيارة القدس الشريف ونزل السلطان بعد أيام في يوم الخميس رابع جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وسبعمائة وسار ومعه خمسون أميرًا وكريم الدين الكبير ناظر الخواص وفخر الدين ناظر الجيش وعلاء الدين علي بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب السر بعدما فرق في كل واحد فرسًا مسرجًا وهجينًا وبعضهم ثلاث هجن وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات لزيارة القدس فتوجه إلى القدس وزاره ثم توجه إلى الكرك ودخله وأفرج عن جماعة ثم عاد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشر جمادى الآخرة فكانت غيبته عن مصر أربعين يومًا. ثم بعد مجيء السلطان وصل إلى القاهرة الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي والأمير بهادر آص والأمير بيبرس الدوادار وهؤلاء الذين أفرج عنهم من حبس الكرك وخلع السلطان عليهم وأنعم على بهادر بإمرة في دمشق ولزم بيبرس داره ثم أنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف على عادته أولًا. ثم عزل السلطان الأمير بكتمر الحسامي الحاجب عن نيابة صفد في أول سنة ثماني عشرة وسبعمائة وقدم القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر. وفي هذه السنة تجهز السلطان لركوب الميدان وفرق الخيل على جميع الأمراء واستجد ركوب الأوجاقية بكوافي زركش على صفة الطاسات وهم الجفتاوات. وفيها ابتدأ السلطان بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشتخاناه وجامع القلعة القديم وأخلط الجميع وبناه الجامع الناصري الذي هو بالقلعة الآن فجاء من أحسن المباني. وتجدد أيضًا في هذه السنة بدمشق ثلاثة جوامع: جامع الأمير تنكز المشهور به وجامع كريم الدين وجامع شمس الدين غبريال. ثم حج بالركب المصري في هذه السنة أمير الحاج الأمير مغلطاي الجمالي وقبض بمكة على الشريف رميثة وفر حميضة وقدم مغلطاي المذكور برميثة
|